الأستاذ محمد احساين
في سياق الحدث:
عاش العالم مع بداية السنة الجديدة ( يناير 2015 ) الحدث الإرهابي الذي أوقعه شخصان من جنسية فرنسية وأصل جزائري على مقر صحيفة “شارلي ايبدو”، ما جعل كثيرا من المهتمين يحاولون مناقشة الحدث في سياقه ومبرراته وأهدافه … وشكل الحدث مناسبة للتذكير بموقف الإسلام من هذه العمليات، وما تحمله معها من إزهاق للأرواح وترويع للآمنين، ليس فقط على مستوى الحدث الفرنسي؛ بل كمبدإ عام يجب مراعاته وإسقاطه على كل الأحداث في كل مناطق العالم وعلى كل العمليات الإرهابية المستهدفة لكل الأجناس والديانات والمؤسسات، باعتبار أن الإرهاب لا لون له ولا دين ولا جنسية … كما شكل مادة إعلامية دسمة؛ حيث انبرت الصحف والمواقع الإخبارية لتغطية الحدث وتتبع مجرياته، ولوحظ ما تدفق من تعليقات ومبادرات وآراء وأخبار عن مظاهر الاحتجاج، وكذا المؤاخذات على تلك الاحتجاجات، خاصة من طرف بعض المشاركين في هذه المسيرات والوقفات. وكانت فعاليات مغربية سباقة إلى تنظيم وقفات تضامنية مع ضحايا ” شارلي ايبدو ” بالرباط والبيضاء؛ حيث شارك حوالي 650 شخصا في وقفتين متفرقتين في مدينة الدار البيضاء، فيما تجمع أكثر من 100 صحافي في العاصمة الرباط، تضامنا مع ضحايا أسبوعية شارلي إيبدو الساخرة. وتجمع نحو 500 شخص ثلثاهم من الفرنسيين المقيمين في مدينة الدار البيضاء وبعض المدن القريبة منها، أمام القنصلية العامة لفرنسا في العاصمة الاقتصادية للمغرب، حاملين الشموع والورود وبعض لافتات التضامن مع ” شارلي ايبدو ” والشعب الفرنسي. إلا أن” المتتبع للوقفة الاحتجاجية التي نظمت بالرباط تحت شعار “كلنا شارلي إيبدو”، سيكتشف تواجد أشخاص بنكهة التوابل، برلمانيين، صحفيين، حقوقيين وبعض الوجوه التي لم تجد لها مكانا بين التيارات العديدة والمتعددة التي تتطاحن في إطار المنفعة الشخصية وتحت غطاء حقوق الإنسان، …. هؤلاء نفسهم الذين يؤكدون على أن الإسلام ينبذ العنف والتطرف، فيما أنهم يستبيحون أن يتم التعامل معه بعنصرية، وأن تتم إهانة مقدساته في إطار حرية التعبير… معبرة عن ذاتها: ” فأنا لست “شارلي إيبدو” و”شارلي إيبدو” ليست أنا، ولن أهين الشموع في مسيرات يتزعمها ملحدون كي أتضامن مع من تلذذ بإهانة رسولي عليه الصلاة والسلام…”كلنا محمد“. (كما أوردت هبة بريس 13 يتاير 2015)
ومن جهتها عملت باريس على حشد مسيرة مليونية قدرت وسائل إعلام فرنسية أعداد المشاركين فيها بمليون متظاهر، سجلت مشاركة خمسين ممثلا لدول أجنبية، فيما عرفت المدن الفرنسية الأخرى مشاركة 350 ألف متظاهر. وذلك استجابة لدعوة الرئيس الفرنسي “هولاند ” لجميع الفرنسيين، بهدف إظهار وحدتهم الوطنية ضد التطرف، وضد كل من يرتكب أعمالًا إرهابية، قائلا: ” أدعو كل الفرنسيين والفرنسيات إلى الوقوف يوم الأحد معًا للتعبير عن معانى التعددية والمساواة والعدل التى تمثلها جمهوريتنا.. لا بد أن نخرج من هذه الأزمة أكثر قوة“.
المسيرة المليونية الحق الذي أريد به الباطل:
لكن الملاحظ أن المسيرة في باطنها غيبت القيم المصرح بها من طرف الرئيس الفرنسي، وكانت ضد الإسلام؛ حيث زادت من تكريس الحقد والعنصرية ضد الدين الإسلامي ورموزه، من خلال رفع شعارات ورسوم ساخرة بالنبي صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي شارك فيه مسلمون في مسيرة باريس لإدانة الهجوم المسلح الذي أودى بحياة أكثر من 12 نفسا من موظفي الجريدة بينهم أربعة من أبرز رساميها، وهم يدينون حتى الرسوم المسيئة للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجريدة تصرعلى الاستهتار بمشاعر المسلمين، رغم التعاطف الذي حظيت به من طرف الكثيرين منهم، وقد ذكر المجلس الفرنسي للديانة المسلمة في باريس أنه رصد وقوع أكثر من 50 اعتداء ضد المسلمين في فرنسا منذ الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة ونقل “مرصد مكافحة الإسلاموفوبيا” التابع للمجلس، حصيلة صادرة عن وزارة الداخلية الفرنسية تضمنت تسجيل وقوع 21 اعتداء (إطلاق نار أو إلقاء قنابل) و33 تهديدا عبر رسائل أو توجيه شتائم منذ الحادث الإرهابي . وفي رد أولي تداول عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لحافلات معلق عليها لافتات مكتوب عليها بالإنجليزية” النبي محمد .. نور الحياة.. ومعلم الحق.. ورحمة للمؤمنين” كما أن المدن الألمانية شهدت عدة مظاهرات ووقفات احتجاجية ضد حركات معادية للإسلام؛ للتأكيد على استبعاد أن يكون للنبي محمد صلي الله عليه وسلم بصفة خاصة أو للإسلام بصفة عامة أي علاقة بالإرهاب الذي ينتشر في جميع أنحاء العالم.
نبذ ازدراء الأديان والتنديد بالرسوم المستهزئة برسول الإسلام:
( الموقف المغربي المعبر عنه بالسلوك الذكي للدبلوماسية المغربية )
ولعل هذا مما حذرت منه وزارة الشؤون الخارجية المغربية في بلاغ لها حول مشاركة المغرب في المسيرة، مؤكدة مشاركة وزير خارجيتها، مشددا على أنه لا مزوار ولا أي مسؤول مغربي ” لا يمكن أن يشارك في هذه المسيرة، في حال رفع رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم “، وفعلا تراجع وزير الخارجية عن المشاركة في المسيرة بعدما تأكد رفع صور مسيئة للدين الإسلامي ورسوله؛ حيث اكتفى بالمشاركة في حفل الاستقبال صباح اليوم بقصر الإيليزي، وتقديم التعازي للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. وكان هذا موقفا طبيعيا للمغرب الذي يحكمه أمير المومنين، وقد كان لهذا الموقف صدى إيجابيا في كثير من المواقع، ولقي هذا السلوك الدبلوماسي الذكي ارتياحا داخليا وخارجيا، رغم أنه أحرج كثيرا من المسؤولين العرب المشاركين في المسيرة؛ حيث يرى الباحث في الدراسات الأمنيَّة والاستراتيجيَّة “عبد الرحيم المنار السليمي” في حديث لهسبريس بتاريخ 12 يناير 2015، أن ” قرار مقاطعة مسيرة “شارلي إيبدو” كان شجاعًا، أراد به المغرب أنْ يوصل أكثر من رسالةٍ، إلى المحيط كما إلى العالم؛ في ظلِّ تنامي التطرف، وعجز فرنسا العلمانية عن تدبير الحقل الديني ومجابهة مشاتل المتطرفين بها. منها: أن المغرب بلد لإمارة المؤمنين، وأن الملك بصفته أمير المؤمنين لا يمكن أن يقبل بالمشاركة في مسيرة ترفع فيها رسوم مسيئة لجد أمير المؤمنين النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وأن المغرب يلعب دوره الإسلامي والعربي في حماية مقدسات الإسلام، ويسهم في دعم روحي ونفسي للجاليات المسلمة في كل بقاع العالم، فالدلالة النفسية والسيكولوجية مرتفعة جدا لأنها ستمكن الجالية المسلمة من الشعور والإحساس بان هناك إمارة المؤمنين الداعمة لهم في مرحلة صعبة، وأن المغرب يمد يده إلى فرنسا ودول أخرى في الجوار تعاني من فراغ ديني وباتت منتجة لفئات متعددة من المتشددين أكثر من أي وقت مضى…” وأبرز الكاتب الصحفي “عبد الباري عطوان” قيمة السلوك الدبلماسي المغربي الممثل لموقف المغرب مشيدا بموقف المغرب لمقاطعته لمشهد مسيرة “شارلي إيبدو“؛ حيث نعته ب”المشهد الغارق في السخرية السوداء المرة”، في إشارة إلى تزعم بعض زعماء الدول للمسيرة التضامنية، مشددا على أن هناك “نقطة مضيئة لا بد من التوقف عندها احتراما، وهي مقاطعة وزير الخارجية المغربي والوفد المرافق له للمشاركة في “المسيرة التضامنية“. واصفا في مقال له، موقف المغرب بالشجاع، وقال “كم تمنينا لو أن الزعماء والمسؤولين العرب الذين شاركوا في المسيرة اتخذوا الموقف الشجاع نفسه، معتبرا أن “معظم المسؤولين العرب والأجانب الذين تقدموا الصفوف هم من أكبر صناع الإرهاب الحقيقي الذي جاءوا لإدانته، والحاضنة الدافئة والمريحة له، بقصد وتعمد أو بغير…” (هسبريس – 12 يناير 2015 )
كما أثارت مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في مسيرة ضد الإرهاب في باريس، والتي تقدمها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وقادة من مختلف دول العالم وعدد من الزعماء العرب، الجدل على الشبكات الاجتماعية؛ حيث تصدر «نتانياهو» الصف الأول لمسيرة الزعماء، والتي شارك فيها الرئيس الفرنسي، وأنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، ورئيس وزراء بريطانيا، ديفيد كاميرون. وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي، مشاركة «نتانياهو» قائلين: «نتنياهو يشارك في المسيره المُنددة بالإرهاب في باريس، وهو من قتل 447 طفلا في الغارات الإسرائيلية على غزة ” واعتبرته استفزازا للعرب والمسلمين والأديان كافة ( يقتل القتيل ويمشي في جنازته ) ومنهم من يرى أنه «لا يمكن أن أتعاطف مع ضحايا يتعاطف معهم نتنياهو الذي صال وجال وقتّل ودمّر وفعل ما فعل في فلسطين ولبنان وبالفلسطينيين واللبنانيين ” وأن «مسيرة باريس المنددة بالإرهاب يقودها ” نتنياهو” قاتل الأطفال بغزة هذا من مهازل هذا الزمان فهذا الكلب لطخت يداه بدماء نساء وأطفال غزة ” مما جعل حركة “حماس” تستنكر الهجوم الذي استهدف صحيفة “شارلي إيبدو” في باريس وأوقع أكثر من 12 قتيلا مؤكدة موقفها المحدد من الأحداث الأخيرة في باريس، والمنسجم مع بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي استنكر ودان ما حدث من اعتداء على الصحيفة الفرنسية”. وأوضحت الحركة أن “أي خلاف في الرأي والفكر ليس مبررا لقتل الأبرياء“.
وأمام هذ التحشيد ضد الإرهاب ونوعية المشاركين في المسيرة الباريسية وما رافقتها من تعليقات صحفية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث نجد من يعتبر الإرهاب لا دين ولا جنسية له، ومن يعتبره لصيقا بالإسلام، ومن يعتبر الحادث مفبركا من أجل التضييق على المهاجرين، ومن يعتبره خير معول لهدم علاقة الإسلام بالغرب، ومحولة جديدة لتجسير علاقة الإرهاب بالإسلام … وهنا يمكن طرح عدة تساؤلات:
– هل بهذه المسيرة والوقفات الاحتجاجية يمكن وقف أو الحد من ظاهرة الإرهاب؟
– ولماذا غابت مثل هذه الحشود عن الاحتجاج عن مجازر غزة وبورما ومالي والعراق وليبيا وسوريا…؟
– هل بعض الشخصيات التي تصدرت المسيرة في إمكانها أن تسهم في مكافحة الإرهاب مع أن فكرها وعقيدتها ويدها ملطخة بدماء الأبرياء؟
– هل الوقفات والمسيرات في عمقها ضد الإرهاب أم النية مبيتة من طرف البعض لجعل الحدث مبررا لمحاربة الإسلام وتخوفا من أسلمة أروبا؟
– ألا يمكن اعتبار تلك العملية الإرهابية عقوبة لفرنسا على مقدماتها للاعتراف بضرورة إزاحة الاستعمار الإسرائلي عن فلسطين خاصة وأن هناك من يعتبرها عملية مفبركة؟
– وإذا كانت نية الرئيس الفرنسي حشد الفرنسيين والمسؤولين الدوليين للملمة الشعب الفرنسي ضد الإرهاب، فما هدف بعض المنظمات والشخصيات المعروفة بمعاداتها للإسلام والتي تجد لديها تهمة الإرهاب جاهزة لإلصاقها بكل ما هو إسلامي؟….
ـ أليس من الأهم البحث عن الجذور العميقة للإرهاب و محاربة أسبابه وبواعثه خاصة أن أسبابه الظاهرة هو الفقر والحاجة وكثرة الظلم المسلط على الأفراد والشعوب، وعدم احترام القيم الخصوصية، وازدراء الأديان، وهضم حقوق الشعب الفلسطيني في العيش وإقامة دولته، ومعارضة حقه في الاستقلال، والتضييق على المسلمين في حرياتهم الشخصية …